إن استشراف المستقبل يهدف بالدرجة الأولى إلى رسم صورة واضحة للمستقبل من خلال منهجية علمية محددة تكشف عما يمكن أن يحدث مستقبلاً. وذلك في ضوء معطيات الحاضر الذي نعيشه. ليس ذلك فحسب بل ويتخطى إلى ايجاد علاقات جديدة وإبداعية، يستلزم معها إطلاق التخيُّل والعقول وصولا لوضع تصورات مستقبلية. وهذا هو العامل المشترك بين استشراف المستقبل والتفكير الاستراتيجي. إن الرغبة في معرفة المستقبل تُعد حاجة فطرية. والوعي بالمستقبل واستشرافه في ظل التطوُّر الهائل في هذا العصر، وفهم تحدياته واستثمار فرصه تُعد من المرتكزات الأساسية لصناعة النجاح، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو على مستوى المجتمعات. حيث أنه لا يمكن أن يتحقق النجاح ما لم يكن هناك رؤية واضحة لمعالم المستقبل.
التخيُّل والابداع
وهب الله الإنسان ملكة التخيُّل ومنحه القدرة على تصوُّر وتخيُّل ما لا وجود له وزوَّده بعقلٍ يمكنه أن يتخيَّل أشياء لم يكن لها وجود من قبل، فيما يوسع حدود علمه ويمد آفاقه، فليس للعلم وجود بدون خيال.
من السهل على كل إنسان أن يتصور ويتخيل الأشياء من حوله، وفي الحقيقة نحن نمارس فعليا التخيُّل عدة مرات في اليوم الواحد، وهناك فرق بين شخص واسع الخيال يرتاد آفاقا بعيدة، وبين شخص واقعي لا يذهب بعيدا. علماً أن التخيل الإبداعي هو الذي يقودنا إلى حل الكثير من التساؤلات حول المستقبل، وإن المطلوب منَّا هو التخيُّل الإبداعي المنتج.
ويعتبر التخيُّل من صفات الإنسان المبدع الذي لا يكبح جماح عقله وتفكيره. كما يرتبط التخيُّل ارتباطاً وثيقاً بالتفكير، فهو أحد أنشطة التفكير العليا، وقد لعب دوراً كبيراً في الوصول للإكتشافات العلمية.
- إن التخيُّل هو قرين الإبداع وقاعدته التي ينتصب عليها، فلا إبداع من دون خيال
- تولد الأفكار الإبداعية وتترعرع وتصل إلى مرحلة النضج عندما تربَّى في بحر من الخيال، الذي يصقلها ويزينها ويطورها
- إن التخيُّل يوحي للمبدع بالسبل التي يمكن أن يسلكها كي ترى فكرته النور، وتنزل إلى أرض الواقع
- التخيُّل عملية بنائية تتكامل فيها الخبرات السابقة والصور المخزنة في الذاكرة طويلة المدى مع المثيرات الحالية التي تحيط بالفرد، ومع التوقعات المستقبلية لتخرج بكل جديد وفكرة مبتكرة.
استكشاف المستقبل
الوسيلة التي نعرفها هي الكلمات. نكتب المقترحات وننتج التقارير وحتى عروضنا التقديمية مليئة بالأرقام والنصوص المكتوبة. نحن أيضا نحب الأرقام. إنها أدلة دامغة على الاتجاهات القابلة للقياس، ومؤشرات الوضع الحالي أو التغيير على مدى فترة زمنية. على الرغم من قيمة مؤشرات الاتجاه، لا توجد حقائق وبيانات حول المستقبل. في استكشافنا للمستقبل، نحتاج إلى الاستفادة من خيالنا ورؤية مستقبل لم يتحقق بعد. ومن الواضح أننا لا نرى فقط بالكلمات والأرقام. الصور أيضاً تساعدنا على الرؤية. تعتبر الممارسة الجيدة لمجموعة أدوات التخيُّل ميزة كبيرة في مشاريع الاستشراف وأبحاث الاتجاهات. فيما يلي طرق يمكن من خلالها للتخيُل أن يعزز عملية التفكير الابداعي في مشاريع استشراف المستقبل:
1. يسرِّع عملية التفكير
تتعامل العديد من مشاريع الاستشراف مع مشاكل معقدة للغاية ومفاهيم مجردة. والقضايا الصعبة التي لا يمكن إعادة صياغتها إلى أسئلة بسيطة أو فهمها من خلال نموذج تفكير واحد. على سبيل المثال، المناقشة العلمية حول مشاكل العلاقة بين الماء والغذاء والطاقة يمكن أن تبقي عمليات التفكير مقصورة على الفهم العلمي والحلول العلمية. في حين أن التخيُّل يسمح بإدخال عناصر أخرى في المناقشة، خاصةً إذا لم تكن الكلمات قد بلورت التفكير بعد. وكذلك يمكن أن تكون الأفكار التي ظهرت في محادثة جماعية هشة للغاية، ولم يتم تحديدها بالكامل بعد. لكن الصورة الأولى لما يراه الناس ويتخيَّلونه في رؤوسهم يمكن أن تساعد في مواصلة المحادثة. فالصورة:
- تتكلم وتعبِّر أكثر من ألف كلمة
- تسمح بإيجاد أنماط جديدة كأساس لقصص
- تحفِّز باتجاه التفكير خارج الصندوق
- تسمح بإنشاء قصص جديدة وإعادة إنشائها
2. يفتح طرائق حسية تتجاوز تفكيرنا التحليلي
على وجه الخصوص عند معالجة التحديات المعقدة والمترابطة، فإن الاستدلال “العادي” المستند إلى النص لا يكفي. بينما عند تخيُّل عمليات التفكير، يتم تنشيط حواسنا الإبداعية وتشارك أجزاء مختلفة من الدماغ. ويساعد هذا التفكير الترابطي والتجريبي والتجسدي على فهم عناصر قصص المستقبل، التي تقع خارج نطاق دماغنا المنطقي التحليلي. كما أن تخيُّل قصتك سيجعل الناس يبتكرون فهماً أفضل لما يعنيه العيش في هذا المستقبل، ومن ثم معرفة عواقب اتخاذ القرار اليوم.
3. يجعل المستقبل ملموساً وحقيقياً
حتى النموذج الورقي لمنتج مستقبلي يمكّن المجموعة من التواصل حول أشياء غير موجودة. في اللحظة التي يمكنك رؤيتها ولمسها، يبدأ الناس في الإيمان بمنتج ما والبدء في الحديث عنه. على سبيل المثال، كيف سيستخدمونه، أو الإعجاب به أو عدم الإعجاب به وما إلى ذلك. الأمر نفسه ينطبق على مناظر المدينة في المستقبل أو المفاهيم المجتمعية الجديدة. إن رؤية كيف تبدو هي بداية محادثة حول تأثير هذه الأشياء الجديدة، وكيف تنطبق على ما نعرفه عن الطريقة التي تعمل بها الأشياء. يعمل النموذج أو العرض على حث الأشخاص على الفور على إعادة تفسير ما يعرفونه، ليروا تأثير الأشياء الجديدة في سياق قديم أو أشياء قديمة في سياق جديد. يمكن اعتبار هذه كالقطع الأثرية للتدرب عليها للمستقبل.
4. يبني إطار متكامل يجمع بين الصور والأرقام والكلمات
يؤدي الجمع بين المعلومات من الأساليب المختلفة إلى إنشاء إطار عمل أكثر ثراءً للمستقبل. يتيح ذلك إجراء محادثة جماعية تتضمن أشخاصاً مختلفين، بعضهم تثيره الصور، والبعض الآخر من خلال مؤشرات كمية. والبعض الآخر من خلال قصة مؤلفة منطقياً. يمكن أن يفتح هذا التفاعل بين الأشخاص الذين لديهم أساليب تفكير مختلفة وخلفيات وتعليم مختلفين رؤى جديدة في الحلول التي تنبثق من أطر المستقبل هذه. على هذا النحو، فإن الميزة الفريدة لإنشاء أطر عمل متكاملة هي أنها تسهل الإعدادات التي تشعر فيها مجموعة مختلطة من الناس بالثقة في قدرتهم على المساهمة في المحادثة.
سيختبر ممارسو الاستشراف الذين يعرفون كيفية استخدام التخيُّل كجزء من صندوق أدواتهم أن هذه التقنيات يمكنها تسريع عملية التفكير والمساعدة في رؤية تأثير التقنيات الجديدة أو التطورات المجتمعية. يساعد إتقان مجموعة أدوات التخيُّل على فهم كيفية الاستفادة من الأسلوب الإبداعي لدى الأشخاص وإطلاق العنان لهذه الإمكانات فيهم.