إن تقنياتنا ووظائفنا ومؤسساتنا وحتى بعض قيَمنا وطرق تفكيرنا، كلها تتغيَّر جذرياً، مما يجعل التخطيط المسبق والاستعداد للتحديات والفرص المستقبلية أمراً صعباً للغاية. في الواقع، في عصر التغيير الهائل والمتسارع الذي نعيشه ليس لدى الكثير من الناس فكرة عن نوع العالم المستقبلي الذي يجب أن يستعدُّوا له. قد يقرِّرون بشكل قسري أنهم لا يستطيعون معرفة أو فعل أي شيء بشأن مستقبلهم. من هنا تظهر علاقة الاستشراف بالنجاح التي تحتاج إلى نظرة متعمِّقة لفهمها بشكلٍ جيد. نتيجة لذلك نعتقد غالباً أن الناس ناجحون بسبب الحظ، في حين أن مهاراتهم الاستشرافية في الواقع هي التي جعلتهم “محظوظين”. حيث مكَّنتهم تقنيات الاستشراف من الاستفادة من الفرص وتجنُّب المشاكل التي تواجه الآخرين. لذلك فإن الاستشراف هو المكوِّن السري للنجاح، لأنه بدون الاستشراف لا يمكننا الاستعداد للمستقبل. لطالما كان الاستشراف الفعَّال مهماً في حياة الإنسان، ولكن ليس من السهل تحقيقه الآن، لأن عالمنا الحديث يتغيَّر بشكلٍ أسرع من أي وقتٍ مضى.
نمو تقنيات الاستشراف
إن المستقبل مستمر مع الحاضر، لذا يمكننا أن نتعلَّم الكثير عما قد يحدث في المستقبل من خلال النظر بشكلٍ منهجي إلى ما يحدث الآن. الشيء الرئيسي الذي يجب مراقبته ليس الأحداث أو التطورات المفاجئة اليومية، ولكن الاتجاهات والتحولات المستمرة طويلة الأجل. على سبيل المثال، زيادة وتغيُّر السكان واستخدام الأراضي والتكنولوجيا والأنظمة الحكومية.
لقد تمَّ تطوير استخدام السيناريوهات كطريقة مفيدة ومهمة جداً للتفكير في المستقبل. علماً أن السيناريو ليس تنبؤاً يحدِّد بالتأكيد ما سيحدث في المستقبل، ولكنه وصف معقول للأحداث التي قد تحدث في المستقبل. كما أنه باستخدام السيناريوهات يمكننا التفكير بجدية فيما يجب أن نفعله بعد ذلك.
وكذلك تم تطوير العديد من أفضل التقنيات المعروفة للاستشراف بالاضافة الى مجموعة متنوعة من الطرق الجديدة للتفكير في المستقبل. وباستخدام هذه التقنيات وغيرها الكثير يمكننا توقُّع أو معرفة العديد من الأشياء التي قد تحدث في المستقبل.
1) المسح
جهد مستمر لتحديد التغييرات المهمة في العالم خارج المؤسسة أو المجموعة التي تقوم بالمسح. عادةً ما يعتمد على مسح منهجي للصحف والمجلات ومواقع الويب الحالية ووسائل الإعلام الأخرى للحصول على مؤشرات للتغييرات التي يحتمل أن يكون لها أهمية مستقبلية. يركِّز المسح بشكل أساسي على الاتجاهات والتغييرات التي تحدث عبر الوقت بدلاً من الأحداث.
2) تحليل ومراقبة الاتجاهات
الاتجاهات التي يُنظر إليها على أنها مهمة بشكل خاص في مجتمع أو صناعة أو قطاع معين يمكن مراقبتها بعناية وإبلاغها بانتظام إلى صانعي القرار الرئيسيين. حيث يتم مراقبة وفحص الاتجاهات لتحديد طبيعتها وأسبابها وسرعة تطورها وتأثيراتها المحتملة. قد تكون هناك حاجة إلى تحليل دقيق لأن الاتجاهات يمكن أن يكون لها العديد من التأثيرات المختلفة على جوانب مختلفة من حياة الإنسان، وقد لا يكون العديد من هذه التأثيرات واضحاً في البداية. على سبيل المثال، قد يكون ظهور وباء أو مرض جديد آثار كبيرة على العديد من المؤسسات والمجتمعات المختلفة.
3) تطوير السيناريوهات وتحليلها
إن السيناريوهات هي محاولات لتخيُّل ووتصوُّر الاحتمالات المستقبلية على أساس ما نعرفه أو نعتقد أننا نعرفه. فهي مفيدة في مساعدتنا على فهم ما قد يحدث نتيجة لقرار قد نتخذه. وكذلك يمكن وصف التطور المستقبلي لاتجاه أو استراتيجية أو حدث في قصة أو مخطط تفصيلي. عادةً يتم تطوير العديد من السيناريوهات بحيث يدرك القادة الاستراتيجيون وصانعو القرار أن الأحداث المستقبلية قد تبطل أي سيناريو يعتبرونه مرجَّحاً ويُستخدم لأغراض التخطيط.
4) استشارة الآخرين
يمكن استشارة أشخاصاً آخرين كالخبراء مثلاً عن آرائهم حول المستقبل. حيث يمكنهم أيضاً تقديم المشورة. على سبيل المثال، يستخدم مديرو الأعمال والقادة الحكوميون التشاور باستمرار كوسيلة لفهم إمكانيات المستقبل واتخاذ قرارات أفضل. وكذلك يمكن جمع البيانات من خلال المحادثة وجهاً لوجه والمقابلات الهاتفية والاستبيانات المرسلة بالبريد الإلكتروني أو العادي.
5) النماذج والمحاكاة الحاسوبية أو الألعاب
يمكن نمذجة الأنظمة المعقدة مثل الاقتصادات العالمية الكبرى عن طريق المعادلات الرياضية والتي يمكن بعد ذلك إدخالها في الكمبيوتر. ثم يمكن إدخال البيانات للتعبير عن وضع وحالة الاقتصاد في الوقت الحاضر. علماً أن النموذج هو تمثيل ثابت لشيء ما لكن لديه توأم ديناميكي وهو المحاكاة. على سبيل المثال، يحاكي قيادات القوات المسلحة المعارك عندما يحركون نماذج الآليات العسكرية والسفن والطائرات الحربية، إما على الخرائط الكبيرة أو أثناء “المناورات العسكرية” التي تتضمن قوات حقيقية وعتاداً وحتى ذخيرة حية. وكذلك في المناورات العسكرية، قد يصبح الجنود الحقيقيون ممثلين في معركة صورية مما يساعدهم على فهم طبيعة القتال الفعلي ويساعد القيادات على اختبار الاستراتيجيات والتكتيكات البديلة التي قد يستخدمونها لاحقاً.
6) التحليل التاريخي
يمكن دراسة الأحداث التاريخية من أجل توقُّع نتائج التطورات الحالية. غالباً ما يمكن مقارنة الوضع الحالي بواحد أو أكثر من المواقف التاريخية التي تبدو متشابهة. على سبيل المثال، اعتمد العديد من قادة الأعمال والحكومات بشكل كبير على ما تعلموه من التاريخ لإرشادهم في اتخاذ القرارات الرئيسية.
7) العصف الذهني
توليد أفكار جديدة عن طريق مجموعة صغيرة يتم تجميعها للتفكير بشكل خلَّاق في موضوعٍ ما. حيث يتم تشجيع أعضاء المجموعة على البناء على أفكار بعضهم البعض والنقد المستمر. علماً أن العصف الذهني مفيد في تحديد الاحتمالات والفرص والمخاطر. كما أن هناك أيضاً طرق أخرى لتوليد الأفكار أو حل المشكلات مثل رسم خرائط الأفكار وتحليل التأثير والتحديد المنهجي لجميع المتغيرات المحتملة. كما أن استخدام العصف الذهني يساعد في توسيع العقول إلى ما بعد الحاضر وتعزيز الابتكار المستمر ووضع الاستراتيجيات طويلة الأجل.
8) الرؤية
بما أن المستقبل هو أكثر من مجرد التنبؤ، فإن أفضل القادة والمدراء المستقبليين لديهم رؤية للمكان الذي يريدون أن تكون فيه مؤسساتهم أو فرقهم في المستقبل. تلك الرؤى هي التي تقود نجاح مؤسسة أو فريق. عادةً ما يبدأ هؤلاء القادة برؤية الأحداث الماضية والوضع الحالي. ثم ينتقلون إلى تصوُّر المستقبل المرغوب فيه، ثم تحديد طرق محددة للتحرك نحو المستقبل المنشود. غالباً ما يمهد إجراء الرؤية الطريق لتحديد الهدف والتخطيط بشكل أكثر رسمية. تلك الرؤى هي التي تقود نجاح مؤسسة أو فريق. كذلك يمكن أن يؤدي عدم إدراك الرؤية أيضاً إلى أقل من النجاح، وربما الفشل، وربما عدم تحقيق الحلم تماماً.
يمكن تحقيق الاستشراف من خلال إنشاء الهيكل الذي سيمكِّن الجميع من استكشاف المستقبل. وكذلك فهم كيفية إجراء التغييرات الاستراتيجية التي ستحتاجها رؤية القيادات المستقبلية إذا أرادوا تحقيقها. وتدور حول اكتساب واستخدام تقنيات ومهارات الاستشراف، بحيث يمكن للمؤسسة والفريق والقائد التفكير والتخطيط لما بعد اليوم لتحقيق تلك الرؤية المستقبلية التي يشاركها الجميع الآن.